الأوصياء المسؤولون: رعاية الجيل القادم من الذكاء البشري على الذكاء الاصطناعي
تقع على عاتق صناعتنا مسؤولية حماية "الذكاء البشري" للمهنة، ومنع هيمنة الذكاء الاصطناعي عليه. بقلم جوزيف جون نالورJoseph John Nalloor
لطالما سادت مقولة "المعرفة قوة". لكن يمكن للمعرفة أن تصبح خطراً إذا تم تشويهها أو تحريفها. حيث يحتل التضليل الإعلامي والمعلومات المضللة مرتبةً عالية في قائمة المخاطر العالمية، إلى جانب أحداث الطقس الاستثنائية والنزاعات المسلحة، وفقاً لتقرير المخاطر العالمية السنوي 2025 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي. لقد أصبحت القدرة على بث الشقاق وتمزيق نسيج المجتمع حقيقةً واقعة، ومع صعود الذكاء الاصطناعي التوليدي، لم يعد هذا السيناريو خيالاً.
حيث يساهم انتشار وتزايد استخدام النصوص والصور ومقاطع الفيديو المُولَّدة بالذكاء الاصطناعي في تلويث الفضاء المعلوماتي، ممّا يصعّب اتّخاذ الخيارات المستنيرة والقرارات الواضحة. كما أصبحت الحاجة ملحة أكثر من أي وقت مضى إلى وجود متخصصين في التواصل يتمتعون بأخلاقياتٍ عالية ومسؤولية لمواجهة هذا التلوث المعلوماتي، سواء على مستوى الحكومات أو المؤسسات العامة أو الشركات أو المجتمع ككل.
يُعترف بمجال العلاقات العامة عالمياً كصناعةٍ حيويّةِ للغاية تواجه بيئةً سريعة التطور تتطلب قدرةً عاليةً على التكيف. لكن حان الوقت لكي تستثمر هذه الصناعة الوقت والموارد في تطوير وتدريب الجيل القادم من متخصصي التواصل. وبصفتي أستاذ إعلام يُعِدُّ خبراء الاتصال المستقبليين ويتعامل مع القطاع، فإن الأسئلة التي أواجهها باستمرار تتمحور حول ما يجب على القطاع فعله؟ ومن أين يبدأ؟
يُقال إنّ أصعب جزءٍ في الرحلة هو الخطوة الأولى. لكن في هذه الحالة، أقدّم أدناه بعض الخطوات السهلة التي يمكن أن يتخذها محترفو القطاع ليكونوا أوصياء مسؤولين عن هذه المهنة.
رعاية المهنيّين الشباب
يتعامل القطاع مع ضغوط هائلة للتكيُّف مع الأدوات الرقمية ووسائل الإعلام المتغيرة باستمرار، والمنصات المتطورة، وتوقعات العملاء والجماهير. حيث تدور النقاشات في المقالات التحليلية ومنشورات لينكدإن والبودكاست والمدوّنات حول مستقبل الصناعة.
كما سيطر تأثير الذكاء الاصطناعي واستخداماته على الحوار الأوسع، لكن يجب على القطاع أن يُمعن التفكير حقًّا في مستقبل رأس المال البشري فيه. يتعيّن تنشئة الجيل القادم من المحترفين الشباب – أولئك الطلاب الجامعيين الذين يطمحون ليصبحوا حراساً للسمعة، ويحلموا بأن يكونوا رواةً للقصص يصنعون حملاتٍ عالمية تُلهم التغيير ذا المعنى. لذلك يتحمّل القطاع مسؤولية الحفاظ على "الذكاء البشري" في هذه المهنة، وعدم السماح للذكاء الاصطناعي بالسيطرة عليها.
خلق فرصٍ للأفكار البشرية
التقنيات تتغير بمرور الوقت، لكنّ فن سرد القصص والأفكار البشرية يظلان العامل الذي يجعل الأصالة لا تقدر بثمن. والتفكير النقدي مهارةٌ تُكتسب مع الخبرة، ومن واجب القطاع أن يخلق فرصاً للجيل القادم. معظم البرامج التعليمية توفّر الأساسيات، لكنها غالباً ما تفتقر إلى الموارد أو الميزانيات اللازمة للأدوات الرقمية باهظة الثمن أو البرامج المتخصصة في المجال. في المقابل، تتوقّع الشركات من الخريجين الشباب معرفة أدوات القطاع ومنصاته، وتقديم نتائج فورية منذ اليوم الأول.
وفي كثيرٍ من الأحيان، لا تكون المشكلة إلّا نقصاً في التواصل من جانب المحترفين أنفسهم. قد تتفاجأ بمدى ترحيب المؤسسات التعليمية عندما يبادر محترفو القطاع بعقد جلساتٍ مع محاضرين تمت استضافتهم من القطاع حول مواضيع ذات صلة بالصناعة ومواكبة للاتجاهات الحديثة.
وعلى جمعيات العلاقات العامة وشركاتها أن تتحمّل مسؤولية عقد شراكاتٍ مع الجامعات والمعاهد لتقديم تدريبات تجعل الطلاب أكثر جاهزية لسوق العمل، وتعالج مشكلة قلّة الخبرة عبر تقديم فرص تدريب. تواصل مع الجامعة أو الكلية المحلية التي تقدم تخصصاً في الاتصال، واعرض تقديم محاضرات أو حتى عروض عملية توضيحية ومباشرة للأدوات والمنصات الرقمية. سيكون من الرائع لو جعل محترفو الاتصال من مساعدتهم للجيل القادم هدفاً شخصياً ضمن مسؤوليتهم الاجتماعية (CSR)، عبر تقديم جلسة أو جلستين سنوياً.
وإدراكاً مني لأهمية هذا الأمر، حرصت على أن تحصل جامعتي على عضوية في منظمات مهنية تتيح للطلاب حضور الفعاليات والبرامج التدريبية للقطاع. حيث تُقدَّم خصومات كبيرة على هذه الفعاليات لتشجيع الطلاب على المشاركة في مبادرات الصناعة. هذه الفرص تمنح الطلاب فرصة مراقبة المحترفين عن كثب أثناء العمل، وتعرّفهم على التحديات والفرص الراهنة في القطاع.
اكتشاف المواهب الواعدة
لهذه التفاعلات أيضاً فائدة خفية للمهنيين، إذ تتيح لهم التفاعل مع المهنيين الشباب، ممّا يُمكّنهم من اكتشاف المواهب الشابة الواعدة. قصة حقيقية: تمّ توظيف العديد من طلابي من قِبل متخصصين في هذا المجال زاروا الحرم الجامعي لحضور جلسات ضيف، وقد وفّر عليهم ذلك الكثير من الوقت والموارد في البحث عن مواهب جديدة.
كونوا مرشدين لا مديرين
من السهل نسيان هذا المبدأ الأساسي في بيئة العمل السريعة اليوم حيث كل دقيقة ثمينة - فالمهنيون الشباب بحاجةٍ إلى مرشدين لا إلى مديرين. ألاحظ الفرق بين طلابي الذين ينضمون إلى هذا المجال ويحظون بحظوظ وجود مرشد جيد ليرفعوا إليه التقارير، وبين أولئك الذين ينهارون تحت إدارة المديرين الذين يعتبرونهم عمالة رخيصة تؤدي إلى الشك الذاتي. يزدهر المهنيون الشباب وينمون ويتفوقون في الشركات التي تُقدّرهم، ليكونوا في النهاية رصيداً طويل الأجل للشركات التي توظفهم.
يحتاج المهنيون الشباب إلى أن يتعلموا الأصالة بدلاً من الانتشار السريع. فالتواصل الفعّال ليس سباقاً ضد الخوارزميات، بل هو فن استخدامها بكفاءةٍ لتحقيق أهداف ذكية.يحتاج الطلاب والمحترفون الشباب إلى إدراك أنّ الاتصال الناجح يجب أن يكون صادقاً، مستداماً، وموثوقاً – وهذا تحدٍّ صعب في عالمٍ يقيس النجاح بعدد الظهور الإعلامي والإعجابات والمشاركات.
تتطلّب التفاعلات الصادقة وقتاً وصبراً ومعرفةً تأتي مع الخبرة، ومن أفضل من خبراء الصناعة لمشاركة معارفهم ونقلها إلى الجيل القادم من المهنيين؟
إعداد وتبادل دراسات الحالة المحلية
على محترفي العلاقات العامة أيضاً تشجيع عملائهم للسماح بمشاركة بعض أعمالهم مع المؤسسات التعليمية والمحترفين الشباب كدراسات حالة. فالكتب الدراسية والمراجع تعتمد بشكلٍ متكرر على أمثلةٍ دولية، بينما يندر وجود نماذج محلية تراعي الحساسيات الثقافية والدينية والاجتماعية في المنطقة التي يعمل بها هؤلاء الشباب.
كما تطوِّر العديد من الشركات حملاتٍ حاصلة على جوائز، لكنها تختفي في الأرشيف دون أن يراها النور مرة أخرى. هذه الحملات الناجحة تستحق حياةً ثانية كدراسات حالة متاحة بسهولة للطلاب في المنطقة، تقدّم لهم رؤى حول عوامل النجاح وأسباب الفشل.
صحيح أن قصص النجاح العالمية تتردد دائماً في الفصول الدراسية، لكن هناك دائماً مساحة للقصص المحلية التي نُفذت على أرض الواقع، والتي تستحق الاحتفاء بنجاحها أو التحليل النقدي لثغراتها، خاصةً أنه لا يوجد حلٌ واحد يناسب الجميع في مجال الاتصالات.
وبرغم حرص المدرسين على تقديم أمثلة شائعة وحديثة في الفصل، إلّا أنّ مشاركة محترفٍ من القطاع لدراسات حالة حقيقية يكون لها تأثير مختلف. وغالباً ما يندهش المحترفون أنفسهم من أنّ هذه الجلسات تصبح فرصاً تعليمية لهم أيضاً، حيث تُكسر الصور النمطية وتُستقى أفكارٌ جديدة.
تقدير الشباب والإبداع والابتكار
سيذهَل الكثير من المحترفين من القيمة الكبيرة والأفكار الجديدة التي يقدّمها الجيل الشاب للمجال. فمساهماتهم وأفكارهم تُمكّن الشركات من التخلّص من الرّضا عن الذات الذي قد يتسلل إلى الممارسات التقليدية في القطاع. فالشباب وُلدوا في عصر التكنولوجيا وهم أكثر ألفة مع المنصات الرقمية، ممّا يساعد الشركات على البقاء في صدارة الاتجاهات والتواصل مع جمهورٍ متزايد من الشباب عبر الإنترنت.
سيؤدي اعتماد أدوات الذكاء الاصطناعي حتماً إلى تقليص الهياكل الوظيفية، ممّا يعني فرصاً أقل ومواهب أصغر سناً. لكن؟ الجانب الإيجابي هو أنّ هذه الأدوات تحوّل العديد من العمليات المرهقة إلى نظامٍ آلي، ممّا يفسح المجال للتركيز على سرد القصص الأصيل، والتفكير النقدي، وبناء علاقات حقيقية مع العملاء، مع الحفاظ على العنصر البشري كأولوية.
يجب على المحترفين الحاليين أن يواكبوا التطورات من خلال التعلّم المستمر طوال حياتهم المهنية، وعليهم أن يتذكروا مقولة بيتر شوتز Peter Schutz: "اختر الشخصية، ودرّب المهارة". فبرغم سيطرة الذكاء الاصطناعي على العديد من العمليات، تبقى الحاجة ماسة للإشراف البشري والإبداع. وليس هناك وقت أفضل من الآن للاستثمار في الجيل القادم من المحترفين، وإلّا قد يصبح القطاع عُرضةً لخطر التهميش في مواجهة انتشار المعلومات المضللة، ممّا يؤثر على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
المؤلّف جوزيف جون نالور
يرأس جوزيف جون نالور كلية الإعلام والاتصالات في جامعة مردوخ دبي. درَّس الإعلام في دولة الإمارات العربية المتحدة لما يقرب من عقدين من الزمن، وترأس ثلاث كليات إعلامية. يؤمن نالور بالتعاون الوثيق بين الطلاب وقطاع الإعلام، وهو عضو في مجالس إدارة العديد من المؤسسات الإعلامية الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
زيارة الموقع الإلكتروني للمؤلف
ترجمة وتدقيق صَبَا إبراهيم سعيد
تحذير واجب.
يرجى التواصل لطلب إذن الاستخدام:
info@ipra-ar.org
اخر المقالات








اخر الاخبار







