قوة تحويلية: التواصل الاستراتيجي في أوقات الاضطراب
يكمن مستقبل العلاقات العامة في التفاعل الذّكي بين التكنولوجيا والأخلاقيات والرؤية الاستراتيجية. بقلم كريستوف شوارتز Christoph Schwartz
يشهد قطاع الاتصالات تحوّلاً عميقاً. حيث يشكّل الخطاب الاستقطابي والأخبار المزيفة وضعف سلطة وسائل الإعلام التقليدية ذات الجودة تحديات لا تواجه الصحافة فحسب، بل أيضاً الاتصالات الاستراتيجية للشركات. وفي الوقت نفسه، تكتسب مواضيع مثل الاستدامة والغرض المؤسسي والتحوّل الرقمي زخماً متزايداً. وفي ظلّ هذه البيئة المعقدة، تمتلك وكالات العلاقات العامة فرصةً واضحة - ومسؤولية - لإعادة تحديد موقعها.
دور العلاقات العامة في الساحة العمومية المجزَّأة
يفقد المجتمع تدريجياً الأرضية المشتركة اللازمة للحوار القائم على الحقائق. وفي المشهد الإعلامي الرقمي، فقدت وسائل الإعلام التقليدية هيمنتها، بينما تواصل المنصات الاجتماعية توسعها، ممّا يعزز "غرف الصّدى" الفكرية ويمكّن الساحات العموميّة من نشر المعلومات المضللة عمداً.
يُخلّف هذا الفراغ المتصوّر للحقيقة والتوجيه والموثوقية شعوراً بعدم الاستقرار لدى المستهلكين والعملاء والشركات على حدٍّ سواء. وفي الوقت نفسه، يتيح تزايد قنوات الاتصال الرقمية للمنظمات فرصة التواصل المباشر مع أصحاب المصلحة الداخليين والخارجيين. إلّا أنّ هذا التقارب الجديد يصاحبه أيضاً توقعات متزايدة: يجب أن يكون التواصل المباشر متسقاً وصادقاً في أسلوبه لحماية المصداقية وتجنب مخاطر السمعة مثل ردود الفعل السلبية عبر الإنترنت.
وهكذا أصبح على المؤسسات إعادة التفكير في استراتيجيات اتصالاتها وتصميمها من جديد. أمّا بالنسبة لمتخصصي العلاقات العامة، يعني هذا تركيزاً متجدداً على بناء الثقة، وتعزيز الشفافية، وتقوية المصداقية، وترسيخ التواصل في السرديات القائمة على الأدلة.
كما بات أصحاب المصلحة يتوقعون بشكل متزايد من المؤسسات تحمّل المسؤولية المجتمعية والمساهمة بقيمةٍ حقيقية. واستجابةً لذلك، يتعين على الشركات والوكالات الدعوة إلى المعايير الأخلاقية في التواصل، وتحديد إرشادات امتثال واضحة، والتصرف بشفافية واتساق عبر جميع القنوات ونقاط الاتصال.
الاستدامة والغرض والقبول كضرورات استراتيجية لا غنى عنها
لم تعد الاستدامة والغرض المؤسسي مجرّد شعاراتٍ جذابة، بل أصبحتا ركيزتين أساسيّتين لبناء السمعة وتحقيق النجاح التجاري. وعلى وكالات العلاقات العامة أن تدفع عملاءها نحو دمج هذه الموضوعات بشكلٍ استراتيجي في اتصالاتهم، بصدقٍ ومصداقية طويلة الأمد. إذ لم يعد الجمهور يتسامح مع "الغسل الأخضر، بل يكشفه بكل سهولة، ممّا يضع قطاعنا أمام تحدٍّ واضح يتمثّل في التخلّي عن الخطاب السطحي وتبنّي استشاراتٍ استراتيجية عميقة تُترجَم التزاماً حقيقياً بالتغيير.
يجب أن يكون غرض المؤسسة واضحاً ومتجسّداً في الممارسات اليومية لكلّ فردٍ فيها. ونتيجةً لذلك، لم تعد الحدود بين الاستراتيجية المؤسسية والاتصالات واضحة – فقد تحوّلت العلاقات العامة من دورٍ داعم إلى عنصرٍ أساسي في القيادة المؤسسية. وهذا يتطلب أيضاً ترسيخ الاتصالات بعمق في ثقافة المؤسسة لضمان مصداقيتها، لاسيّما في الاتصالات الداخلية.
كذلك لم يعد تكليف الإدارة العليا بمسؤولية الاتصالات المؤسسية – وضمان التعبير المتسق عن قيم المؤسسة عبر جميع المستويات – خياراً ثانوياً، بل أصبح ضرورة. وقد أدركت العديد من الشركات الناجحة هذه الحاجة وقامت بتطبيقها. ومع ذلك، لا تزال الاتصالات تُعامل في كثير من الأحيان على أنها مجرد أداة تسويقية. هذا المنظور القديم يُخاطر بالتقليل من شأن عواقب عدم اتساق التواصل مع العلامة التجارية، وهو خطر يجب أن تحمي وكالاتنا عملاءها منه عبر تقديم إرشادات جريئة واستباقية.
العلاقات العامة كعامل تمكين استراتيجي للأعمال
أحدث التقدم التكنولوجي طفرةً في أدوات العلاقات العامة، حيث مكّنت الرقمنة من تطوير استراتيجيات اتصال أكثر تخصيصاً وأتمتة. فأصبحت أدوات مثل روبوتات الدردشة والتحليلات المدعومة بالذكاء الاصطناعي واستهداف الجمهور بناءً على البيانات تمنح وكالات العلاقات العامة قدرةً غير مسبوقة على التفاعل مع أصحاب المصلحة. لكنّ التحدي الأكبر يكمن في استخدام هذه التقنيات بمسؤولية، مع الحفاظ على العنصر البشري الذي يبني الثقة. فاستراتيجيات العلاقات العامة الناجحة يجب أن تجمع بين كفاءة التكنولوجيا ودفء الاتصال الإنساني الأصيل المتعاطف والصادق.
وفي الوقت نفسه، لا تقتصر تقنيات ناشئة مثل البلوك تشين والميتافيرس والويب 3 على تغيير طريقة تفاعل العلامات التجارية مع جمهورها فحسب، بل تعيد تشكيل نماذج الأعمال ذاتها. ممّا يفرض على استراتيجيات العلاقات العامة الانخراط الفاعل مع هذه التطورات. فالشركات التي تستثمر مبكراً في التحول الرقمي والصيغ الابتكارية ستكون في موقع الريادة الفكرية بقطاعاتها.
كما تكتسب الاتصالات الاستراتيجية أهميةً حاسمة في مساعدة الجمهور على فهم تعقيدات الابتكارات التخريبية والتقنيات الجديدة. لذا يتعين على متخصّصي العلاقات العامة تبنّي رؤيةٍ متعدّدة التخصّصات، واستشراف الاتجاهات، والاضطلاع بدور المرشد في هذا العصر الرقمي المتسارع.
إدارة الاتصالات في عالمٍ متقلب: التحديات والاستراتيجيات
شهدت السنوات الأخيرة تسارعاً غير مسبوق في وتيرة الأزمات - من الاضطرابات الجيوسياسية والصدمات الاقتصادية إلى الخلافات الأخلاقية. وفي هذا السياق المتقلب، لم يعد بناء إطارٍ متين للاتصالات أثناء الأزمات رفاهية، بل ضرورة حتمية. ومع تسارع وتيرة انتشار المعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تحوّلت "الأزمة المصغّرة" إلى حالةٍ دائمة تعيشها المؤسسات.
تلعب وكالات العلاقات العامة دوراً محورياً في هذا الصدد، ليس فقط في وضع استراتيجيات وقائية، ولكن أيضاً في الحفاظ على المرونة والاستجابة خلال الأزمات الحادة. حيث تتطلّب اتصالات الأزمات الحديثة السرعة في ردّ الفعل والشفافية الكاملة ورسائل متماسكة عبر جميع المنصات. ويظلّ التنسيق الوثيق مع فرق القيادة أمراً بالغ الأهمية لتمكين اتخاذ قرارات اتصال سليمة وتقليل الاضرار طويلة الأمد على السمعة.
تمثّل الأزمات محكاً حقيقياً يكشف مدى أصالة رسائل المؤسسة، ومصداقية متحدثيها الرسميين، ودرجة التزام المؤسسة بمبادئها المعلنة، بالإضافة إلى قدرتها على التحول من الخطاب إلى الممارسة الفعلية.
وفي عالم تتشابك فيه الأزمات وتتسارع وتيرتها، تبرز الحاجة إلى نموذج اتصالي جديد يجمع بين اليقظة الاستراتيجية والمرونة التشغيلية، مع الحفاظ على القيم الجوهرية للمؤسسة في قلب جميع القرارات والرسائل.
استشراف المستقبل: العلاقات العامة كمحرك استراتيجي رئيسي
في عالمٍ تندر فيه الثقة، تبرز العلاقات العامة كحلقة وصلٍ حيوية. فالقدرة على تبسيط التعقيدات، وتعزيز الرّوابط، وبناء سمعةٍ طويلة الأمد، أصبحت مهارةً أساسيةً للمؤسسات الناجحة.
يكمن مستقبل العلاقات العامة في التفاعل الذكي بين التكنولوجيا والحوكمة الأخلاقية واستشراف التحوّلات المجتمعية. وهذا التحوّل لا يُمثّل تحدّياً فحسب، بل فرصةً استثنائية للراغبين في تقبّل التغيير وإعطاء التواصل دوره الصحيح كقوة تحويلية داخل المؤسسات.
ستكشف السنوات القادمة عن الوكالات والشركات التي أدركت مبكّراً تحوّلات العصر، والمؤسسات التي طورت من أدائها من رد الفعل إلى صياغة المستقبل، واللاعبين الذين استثمروا في الاستشارات الاستراتيجية والبنية الرقمية، والمعايير الأخلاقية الرصينة والذين لهم دور حاسم في تشكيل مستقبل هذه الصناعة.
وهكذا لم تعد العلاقات العامة مجرّد وسيلة اتصال. لقد تطورت إلى أداة تحوّلٍ مؤسسي، ومنصّةٍ لصناعة التأثير المجتمعي، وجسرٍ بين الابتكار والقيم الإنسانية.
المؤلّف كريستوف شوارتز
كريستوف شوارتز، دكتور في الطب، شوارتز للعلاقات العامة، ميونيخ..
زيارة الموقع الإلكتروني للمؤلف
ترجمة وتدقيق صَبَا إبراهيم سعيد
تحذير واجب.
يرجى التواصل لطلب إذن الاستخدام:
info@ipra-ar.org
اخر المقالات








اخر الاخبار







