مواءمة العلامات التجارية مع ما يهمّ الناس: الحاجة إلى الإلمام الثقافي
لتحقيق النجاح في عالم الاتصالات اليوم، يجب على متخصصي العلاقات العامة أن يصبحوا خبراء في الاستراتيجيات الثقافية. بقلم رون جبالRon Jabal
أعادت البيئة الرقمية تشكيل ممارسات العلاقات العامة في ظل المناخ الرقمي سريع التطور، إذ لم تعد أساليب العلاقات العامة التقليدية تحقّق النتائج المرجوة. وقد فرضت منصات التواصل الاجتماعي واقعاً جديداً يتّسم بالسرعة الفائقة في تبادل المعلومات، والتفاعل المباشر مع الجمهور، والشفافية المطلقة التي لا تقبل التزييف. وأمام هذه المعطيات، أصبح نجاح أي حملة علاقات عامة رهناً بالعمق الثقافي المتمثّلبفهم السياقات المجتمعية والقيم السائدة، والمرونة الاستراتيجية المتمثلةبالقدرة على التكيف مع التحولات الرقمة،والأصالة في تقديم محتوى يعكس هوية العلامة التجارية بصدق.ففي عصرٍ يتمتّع فيه المستهلكون بوعيٍ غير مسبوق واستقلاليةٍ في اتّخاذ القرارات، لم يعد هناك مجالٌ للأساليب السّطحية أو الرّسائل الجّاهزة. لقد تحولت العلاقات العامة من مجرّد نقل المعلومات إلى صناعة محتوىً يستند إلى رؤيةٍثقافيةٍ عميقة،وفهمٍدقيقٍ لسلوكيات الجمهور الرقمي. فأيّ حملة علاقاتٍ عامة ناجحة اليوم تعتمد على الثقافة كعنصرٍأساسيٍّ حاسم.
كما يحتاج الممارسون إلى الفهم الكامل للعناصر الثقافية في العلاقات العامة لأنها تؤثّر بعمق على كيفية تلقّي الرسائل، وإدراك الحملات، وفعّالية مبادرات إدارة سمعة المؤسسة أو العلامة التجارية بشكلٍ عام. وبالفعل، انتقلت الثقافة من كونها عنصراً اختيارياً "جيداً لو وُجد" إلى عنصرٍ أساسي في إدارة الحملات التسويقية.
ومن الواضح أنّ الإلمام الثقافي أصبح ضرورياً في ممارسة العلاقات العامة اليوم.
العلاقة بين الثقافة والعلاقات العامة
قدم العديد من الباحثين تفسيرات متنوعة للثقافة. فمن وجهة نظر البعض، تشمل الثقافة عناصر مثل المعرفة، والخبرات، والمعتقدات، والقيم، والمواقف، والمعاني، والتسلسلات الهرمية، ومفاهيم الزمان، والأدوار، وعلاقات المكان، التي تتراكم عبر الأجيال. بينما يعرّفها آخرون بأنها نمط حياة مجموعةٍ من الناس، ينتقل عبر اللغة والتقليد من جيلٍ إلى آخر. وتكشف هذه التعريفات باستمرار أنّ الثقافات تؤثّر في عملية بناء المعنى، واستقبال الرسائل، وكذلك تفاعل الجمهور مع الأفراد والمؤسسات والعلامات التجارية.
وفي نطاق العلاقات العامة، تعمل الثقافة كمرشح تواصل يتحكّم في كلّ المعلومات المنقولة. واليوم، تقود الثقافة الحوارات التي تجري فوريّاً على منصات لامركزية، حيث لم يعد المحتوى يُوزَّع بطريقةٍ هرمية (من الأعلى إلى الأسفل)، بل تتمّ المشاركة في صناعته بشكلٍ جماعي على منصات التواصل والمجتمعات الرقمية. وهذا يحوّل ممارسة العلاقات العامة من التحكّم في الرسائل إلى المشاركة في صياغة المعاني مع الجمهور، حيث تصبح الثقافة العامل الأكثر أهمية.
كما يتلقّى الجمهور وأصحاب المصلحة الرسائل بناءً على بيئتهم الثقافية، التي تحدّد فعالية الرسالة ومدى ملاءمتها. لذا، يجب على المؤسسات والعلامات التجارية أن تدرك أنّ تبادل القيمة يتمّ عبر حوارات المستهلكين، ومشاركة القيم، والتّعاطف.
لم يعد "الإخبار" فعّالاً، و"العرض" أصبح جزئي التأثير. ما أصبح ضروريّاً الآن هو مواءمة السّردية الخاصة بالعلامة التجارية مع ما يهمّ الناس، وليس فقط ما يهمّ الأعمال.
على سبيل المثال، لم يعد إطلاق المبادرات المستدامة من قبل العلامات التجارية يقتصر على تسويق الممارسات الصديقة للبيئة أو المنتجات الخضراء. فالناس ماعادوا يريدون مجرد شراء منتجات، بل أصبح الأهم هو فهم السياق الثقافي الأوسع واستكشاف ما إذا كان الوعي البيئي يمثّل قيمةًأساسيةً للمستهلكين.
لذا، عندما تُنفَّذ حملات العلاقات العامة بأصالةٍ وبُعدٍ ثقافي، يمكنها إثارة تفاعلٍ ذي معنى وتعزيز صورة العلامة التجارية بشكلٍ إيجابي.
أهميّة الإلمام الثقافي في العلاقات العامة
يتمتّع محترفو العلاقات العامة الملمّون بالثقافة بفهمٍدقيقٍ للفروق الثقافية، ممّا يمكّنهم من رصد تحوّلات الحوار العام وتجنّب الأخطاء الثقافية المحتملة قبل أن تتحوّل إلى أزمات. كما يمنحهم هذا الإلمام القدرة على التواصل بلغة الجمهور-حرفيّاً ومجازيّاً - ممّا يتيح للعلامات التجارية تخصيص جهودها التّسويقية لتتناسب مع الأذواق الإقليمية والتغيّرات الجيلية والاجتماعية.
ويعدّ الإلمام الثقافي أداةً قوية عند تنفيذ الحملات عبر عدّة دول وثقافات ومنصّات، حيث يتمّ أخذ الاختلافات الثقافية في الاعتبار قبل إطلاق أيّ مبادرة عالمية. فغياب الحساسية الثقافية قد يؤدّي إلى أخطاء تثير انتقادات أو مقاطعات، ممّا يتسبّب في أضرار طويلة المدى للسّمعة. لذا، من الضروري دمج الرؤى الثقافية في كلّ مراحل الحملة، بدءاً من البحث والتخطيط وصولاً إلى مرحلة التنفيذ.
كما أصبح الإلمام الثقافي شرطاً أساسياً لنجاح العلاقات العامة في ظلّ صعود الذكاء الاصطناعي (AI). فبينما تتفوّق أدوات الذكاء الاصطناعي في أتمتة العمليات وكشف الاتجاهات، إلّا أنّها تعجز عن فهم السياق الإنساني الذي يحتاجه الجمهور. كما تستطيع الخوارزميات تحديد الاتجاهات السائدة، لكنها لا تستطيع تفسير سبب نجاح بعض استراتيجيات العلاقات العامة في بناء تواصلٍ فعّالٍ مع الجمهور.
كما يُشكّل الإلمام الثقافي الجسر بين الأتمتة والأصالة. ففي عالمٍلا يطالب الجمهور فيه بالمعلومات فقط بل بالمعنى، يجب على المتخصّصين في الاتّصال تحقيق التوازن بين سرعة الذكاء الاصطناعي واتّساع نطاقه، وبين الحساسية والعمق الذي لا يمكن أن يوفّره سوى الذكاء الثقافي البشري.
لذا، فإنّ الجمع بين الذكاء الاصطناعي والذكاء الثقافي هو ما يضمن للعلامات التجارية التواصل بفعّالية، مع الحفاظ على الصّدق والتّفاعل الإنساني الذي يتوقّعه الجمهور اليوم.
ضرورة تبنّي استراتيجية علاقات عامة تقودها الثقافة
أصبح تبنّي منهج "الثقافة أولاً" في العلاقات العامة ضرورة ملحّة للممارسين في هذا المجال، حيث يضع هذا النهج الملاءمة الثقافية والشمولية والأصالة في صلب أولوياته. ففي المشهد الحالي، يشكّل التقاطع بين العالم الرقمي والثقافي نظاماً بيئياً متكاملاً، تساهم فيه كل رسالة وحملة وتفاعل في تشكيل بصمة العلامة التجارية.
ويجب أن يدرك مختصو العلاقات العامة أنّ اتّباع نهج "الثقافة أولاً" ليس مجرّد موضةٍ عابرة، بل هو عقلية استراتيجية طويلة المدى تُمكّن العلامات التجارية من بناء روابط أعمق مع جمهورها. فالثقافة لم تعد مجرد عاملٍ ثانوي في عملية الاتصال، بل أصبحت جوهرية في صياغة الرسائل، وطريقة مشاركتها، وكيفية استيعابها من قبل الجمهور.
وفي عالمٍ يزداد ترابطاً وتعقيداً، أصبحت الطلاقة الثقافية هي العامل الحاسم الذي يحدّد نجاح الرسائل أو فشلها. ولذلك، على محترفي العلاقات العامة أن يتحوّلوا إلى استراتيجيين ثقافيين يستمعون إلى نبض المجتمع، يتحدثون بتعاطف، ويتصرفون بوعي. ففي العصر الرقمي، لم تعد الثقافة مجرّد خلفيةٍ للتواصل، بل هي الرسالة ذاتها.
في النهاية، العلامات التجارية التي تضع الثقافة في قلب استراتيجيتها لن تنجح فقط في جذب الانتباه، بل ستكسب الثقة والولاء في عالم يتوق إلى التواصل الإنساني العميق.
المؤلّف رون جابال
رون جابال، الحاصل على دكتوراه في إدارة الأعمال، وخبرة العلاقات العامة المتقدمة، يشغل منصب الرئيس التنفيذي لمجموعة PAGEONE، وهي شبكة تضمّ ست وكالات تُعتبر من أبرز شركات العلاقات العامة في الفلبين وجنوب شرق آسيا. وهو أيضاً أستاذ مساعد في ماليزيا، وكاتب عمود في مجال الأعمال في كبرى الصحف الفلبينية. يتمتّع بخبرةٍ واسعة كمستشار اتصالات أول للأمم المتحدة، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والاتحاد الأوروبي، والبنك الدولي، وبنك التنمية الآسيوي في الفلبين. ويؤمن بمبدأ "السمعة هي رخصتنا للعمل".
زيارة الموقع الإلكتروني للمؤلف
ترجمة وتدقيق صَبَا إبراهيم سعيد
تحذير واجب.
يرجى التواصل لطلب إذن الاستخدام:
info@ipra-ar.org
اخر المقالات








اخر الاخبار







